العبادة وأهميتها
أ - معناها ب - شروطها ج - أركانها د – أنواعها هـ - خصائص العبادة
أ- معنى العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فكل حياة الإنسان عبادة لله سبحانه وتعالى، فالإنسان عبد لله في المسجد والسوق والمنزل والعمل، وفي كل مكان.
ب- شروط العبادة:
لا تقبل العبادة إلا بشرطين:
الأول: الإخلاص: فلابد أن تكون أعمال الإنسان وعبادته خالصة لله سبحانه، لا يشرك مع الله أحداً، ولا يرجو ثناءً ولا مدحاً من أحد.
قال عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } [البينة: 5].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله ورَسُوله فَهِجْرَتُه إِلَى الله ورَسُوله، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ) رواه البخاري.
الثاني: أن تكون عبادته على وفق ما شرعه الله ورسوله، فمن عبد الله بشيء لم يشرعه الله، فعبادته مردودة عليه غير مقبولة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منهِ فَهُوَ رَدٌّ ) متفق عليه.
ج- أركان العبادة وأصولها:
العبادة تقوم على أركان ثلاثة هي: المحبة، والرجاء، والخوف.
1. المحبة لله تعالى:
فهي أصل الإسلام، وهي التي تحدد صلة العبد بربه تبارك وتعالى، وهي نعمة لا يدركها إلا من ذاقها، وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمراً هائلاً عظيماً وفضلاَ غامراً جزيلاً، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها، ولا شبيه له، هو إنعام عظيم وفضل غامر جزيل أيضا. وقد تواردت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بهذه المعاني، فقال الله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } [مريم: 24].
وقال عز وجل: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة: 24].
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار ) رواه البخاري.
وحب الله تعالى ليس مجرد دعوى باللسان، ولا هياماً بالوجدان، بل لابد أن يصاحبه الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسير على هداه وتحقيق منهجه في الحياة، والإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش ولكنه طاعة لله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول، قال الله عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } [آل عمران: 31].
تنبيه:
ولكن بقي أن نشير هنا -تأكيداً لما سبق - إلى أن هذه المحبة هي غير المحبة الطبيعية للشيء، وغير محبة الرحمة والإشفاق ، كمحبة الوالد لولده الطفل، وليست محبة الإلف والأنس كمحبة الإخوة لبعضهم، أو لمن يجمعهم عمل واحد أو صناعة واحدة. وإنما هي المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله تعالى، ومتى أحب العبد بها غيره كانت شركاً لا يغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره سبحانه وتعالى على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعلقها أصلاً بغير الله.
2. الرجاء:
تعريفه: هو الاستبشار بجود الرب تبارك وتعالى، ومطالعة كرمه وفضله والثقة به.
الفرق بين الرجاء والتمني: أن الرجاء هو أن العبد يرجو ما عند الله عز وجل في الدار الآخرة، والرجاء لا يكون إلا مع العمل، فإذا كان بدون عمل فهو التمني المذموم، قال عز وجل: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً } [الكهف: 110].
فالرجاء هو التمني المقرون بالعمل وفعل السبب، أما التمني فهو الرغبة المجردة عن العمل وبذل الأسباب.
عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث يقول: (لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَل ) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قَالَ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ) رواه البخاري.
3. الخوف:
فكما أن العبد يرجو ثواب الله ومغفرته، كذلك فهو يخاف الله ويخشاه، قال عز وجل: {فلا تخافوهم وخافون } [آل عمران: 175].
فمن اتخذ مع الله نداً يخافه فهو مشرك.
قال الله عز وجل: {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } [البقرة: 80-81].
والقلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
د- أنواع العبادة:
أنواعها من حيث العموم والخصوص نوعان:
1. عبادة عامة:
وهي تشمل عبودية جميع الكائنات لله عز وجل، يدخل فيها المؤمن والكافر والإنسان والحيوان، بمعنى: أن كل من في الكون تحت تصرف الله وقهره، قال عز وجل: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } [مريم: 93].
2. عبادة خاصة:
وهي عبادة المؤمنين لربهم، وهي التي عناها الله عز وجل بقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [النساء: 36].
وهذه هي العبودية التي تحصل بها النجاة يوم القيامة.
هـ- أنواع العبادات من حيث تعلقها بالعباد:
1. عبادات اعتقادية:
وهذه أساسها أن تعتقد أن الله هو الرب الواحد الأحد الذي ينفرد بالخلق والأمر وبيده الضر والنفع ولا يشفع عنده إلا بإذنه، ولا معبود بحق غيره.
ومن ذلك أيضا: الاعتقاد والتصديق بما أخبر الله تعالى عنه، كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر في آيات كثيرة كقوله عز وجل: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } [البقرة: 177].
2. عبادات قلبية:
وهي الأعمال القلبية التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله تعالى وحده، فمنها:
المحبة التي لا تصلح إلا لله تعالى وحده، فالمسلم يحب الله تعالى، ويحب عباده الذين يحبونه سبحانه، ويحب دينه، قال الله عز وجل: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله } [البقرة: 165].
ومنها التوكل: وهو الاعتماد على الله تعالى والاستسلام له، وتفويض الأمر إليه مع الأخذ بالأسباب، قال الله عز وجل: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 23].
ومنها الخشية والخوف من إصابة مكروه أو ضر، فلا يخاف العبد أحداً غير الله تعالى أن يصيبه بمكروه إلا بمشيئة الله وتقديره، قال الله عز وجل: {فلا تخشوا الناس واخشون } [المائدة: 44].
3. عبادات لفظية أو قولية:
وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقدها ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّه ) رواه البخاري.
دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، سواء كان طلباً للشفاعة أو غيرها من المطالب، قال الله عز وجل: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } [يونس: 16].
4. عبادات بدنية:
كالصلاة والركوع والسجود، قال الله عز وجل: {فصل لربك وانحر } [الكوثر: 2].
ومنها الطواف بالبيت، حيث لا يجوز الطواف إلا به، قال عز وجل: {وليطوفوا بالبيت العتيق } [الحج: 29].
ومنها الجـهاد في سبيل الله تعالى، قال عز وجل: {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } [النساء: 74]. وكذلك وسائر أنواع العبادات البدنية كالصوم والحج.
5. عبادات مالية:
كإخراج جزء من المال لامتثال أمر الله تعالى به، وهي الزكاة. ومما يدخل في العبادة المالية أيضاً: النذر، قال الله عز وجل: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً } .
هـ - خصائص العبادة
1/ الربانية والتوقيف
من خصائص العبادة في الإسلام أنها ربانية المصدر، وإلهية المنبع ، مبناها على الإذن السماوي ، الصل فيها المنع والتوقيف ،حتى يصدر التشريع الرباني بشرعيتهاوجوباً أو استحباباً ، فهي توقيفية ، الأصل فيها الحظر ، إلا مادل الدليل الشرعي عليه.
وليس لأحد من المخلوقين الحق في تشريع أي عبادة مهما كانت هذه العبادة ، قولاً أو فعلاً ، وإنما ذلك حق لله تعالى وحده لا شريك له في هذا الحق أبداً .
وقد حذر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من الإبتداع في الدين والإحداث فيه ، كما جاء في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- حين قال : "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا ،فوعظنا موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقال قائل :يارسول الله ، كأن هذه موعظة مودّع فماذا تعهد إلينا ، فقال: " أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً،فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ،تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ،وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " . رواه أبو داود حديث رقم(4607)
فكل عبادة لم يشرعها الله تعالى فهي باطلة مردودة ، لا يحل لمسلم أن يتعبد الله بها ، ولا يتقرب إلى الله بفعلها ، بل إن فعلها منكرٌعظيم ٌوحرام يأثم فاعله ولا يؤجر، ويعاقب ولايثاب ، يقول الإمام ابن القيم :"كل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعداً فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء ".
وقد صرحت بذلك النصوص الشرعية ، فعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قالرسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس فيه فهو رد" رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي في بيان هذا الحديث : "قل أهل العربية : الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه فهو باطل غير معتد به ، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد البدع والمخترعات" شرح النووي على صحيح مسلم
وقال الإمام ابن حجر : " وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده ،فإن معناه : من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله ، فلا يُلتفت إليه". فتح الباري.
ومثل الإمام ابن عبد البر للابتداع في الدين فقال: " فمن توضأ على غير ماكان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يجزه ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد".
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تأخذ منه شريعتها ، وأحكام عبادتها ، فقال صلى الله عليه وسلم في شان الصلاة : " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري
وأمر أصحابه أن يتلقوا عنه أحكام المناسك ، ويتعلموا أحكام الحج من فعله صلى الله عليه وسلم فعن جابر بن عبدالله-رضي الله عنه- قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، يرمي على راحلته يوم النحر ، ويقول : " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه". رواه مسلم
2/التوازن والإعتدال
من خصائص العبادة في الإسلام التوازن والإعتدال ،فهي متوازنة بين المادة ةالروح ، معتدلة بين الدنيا والدين ، لا يطغى فيها جانب على جانب ، ولا يبغى فيها مجال على مجال .
لاتغلّب جانب الروح فتحرم الجسد حاجاته ، كما لا تهمل جانب الروح بالكلية وتطلق للجسد عنانه يفعل مايشاء بل توفق بين متطلبات الروح وبين حاجات الجسد ، وتجمع بين مطالب الدنيا وبين حقوق الآخرة .
فهي وسط بين الرهبانية المبتدعة ،التي تعارض طبيعة الإنسان التي جُبل عليها ، فتكبت الجسد وتحرمه حاجاته وغرائزه وتصادم فطرته التي خلق عليها ، وتقسو عليه أيما قسوة ،وتعذبه أيما تعذيب ، وذلك كحال الذين يتعبدون الله تعالى بتحريم الزواج وكبت الغرائز ، والبعد عن النظافة والتجمل ، وتعذيب الجسد بما لا يطيق ، من تعريضه للأذى ، ومنعه كثيراً من لذيذ الطعام والشراب ، إلى غير ذلك من العبادات المبتدعة ، والرهبنة المحدثة ، التي لم ينزل الله بها سلطاناً ، ولم يأذن بها أو يرتضيها ، بل ورد فيه عكس ذلك.
كما في قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الأنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ماكتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) الحديد27
كما أنها وسط بين المادية الجافة ، التي تلغي جانب الروح وتهمله ، ولا تعتني به ولا تلتفت إليه ، كحال اليهودية المحرفة ، التي تنظر إلى العبادة نظرة مادية بحتة ، وتتعامل مع الطاعة تعاملاً دنيوياً صرفاً ، لا تكاد ترى للآخرة فيها موقعاً ، ولا للجنة أوالنار مكاناً ، فالعمل الصالح إنما ثوابه عندهم الصحة والعافية ، أو الثراء وكثرة المال أو طول العمر والبقاء في الدنيا .
كما أن ترك الطاعات عقابها عندهم المرض والوباء ، أو الفقر والفاقة ، أو الموت العاجل وعدم الخلود في الدنيا .
وهكذا تجد نصوصهم المحرفة ، تحث على احترام الآباء والأمهات من أجل التعمير في الأرض ، وتأمر بعبادة الله تعالى ليبارك في خبزهم ومائهم ، ويبعد عنهم الأدواء ، ويطيل لهم الأعمار .
وهكذا تغلب النظرة الدنيوية على روح العبادة ، وتصبغ الطاعة بصبغة المادة .
أما الإسلام فسمته التوازن بين هذا وذاك ، فهو يريد المسلم أن يكون عابداً لله تعالى ، عاملاً في حياته لإصلاح دنياه ، وبذلك يعطي القلب حقه ، كما يعطي الجسد حقه ، وقد أمر سبحانه وتعالى بهذا التوازن ، وحث على هذا الإعتدال بقوله : ( وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ ِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) القصص 77
كما أثنى على من هذا حاله ووصفه في القرآن الكريم بقوله : (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماًتتقلب فيه القلوب والأبصار) النور 37.
وقد جاء القرآن الكريم بإرشاد المؤمنين إلى تحقيق التوازن والإعتدال ، بين العبادة والدنيا في نظام رباني في غاية الدقة ومنتهى الإحكام فقال : (ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)الجمعة آية 9.
فأرشد إلى السعي إلى الصلاة عند سماع النداء للجمعة، وترك الإنشغال بالدنيا ومتاعها ، ثم أذن بعد الإنصراف من هذه العبادة المباركة في البيع والشراء والإنشغال بالمعيشة ، وبذلك يعرف المسلم أن لكل شيء وقته المناسب ، وأنه لا ينبغي أن يطغى جانب على جانب .
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، إلى تحقيق التوازن بين العبادة وبين غيرها من الحقوق ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ياعبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل " ، فقلت : بلى يارسول الله ، قال : فلا تفعل ، صم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزوك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام ، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها،فإن ذلك صيام الدهر كله " ، فشددت فشد عليّ ، قلت : يارسول الله إني أجد قوة ، قال : " فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه " ، قلت وماكان صيام نبي الله داود عليه السلام ، قال : "نصف الدهر " . فكان عبد الله يقول بعد ماكبر : ياليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري ومسلم
كما علم النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- منهج التوازن والإعتدال لأولئك الرهط الذين جاءوا إلى بيوته صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه - حين قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا : وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر الله له ماتقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال : " أنتم الذين الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزرج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ". رواه البخاري ومسلم
________________________________________
3/ التنوع والتعدد
من خصائص العبادة في الإسلام التنوع والإختلاف ، فليست العبادة في الإسلام على صورة واحدة ، أو هيئه مفردة ، بل هي متنوعة متعددة ، لها صور شتى وأشكال مختلفة ، وأنواع كثيرة :
فمنها ماهو بدني ومنها ماهو مالي ، ومنها ماهو فردي كما أن منها ماهو جماعي ،ومنها ماهو قلبي فقط ،ومنها ماهو مع ذلك عملي بالجوارح ، ومنها ماهو مؤقت بوقت محدد ومنا مالم يحدد له وقت معين، ومنها ماهو عبادة محضة ومنها ما هو فالأصل من قبيل العادة ثم غدا عبادة بالنية الصالحة إلى غير ذلك من أنواع ، نعرض لببعضها فيما يأتي :
صور من تنوع العبادة
أولاً: العبادة البدنية والمالية
والعبادة بهذا الإعتبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
العبادة البدنية : أي مايؤدى بالبدن ، كالقلب والجوارح، مثل : الإيمان بالله تعالى ،ومثل الصلوات بإختلاف أنواعها ، والصوم ، والجهاد ، والذكر ، والإستغفار .
العبادة المالية : وهي التي تؤدى بدفع شيءٍ من المال ، مثل الزكاة الواجبة ، وصدقة التطوع ، وبعض الكفارات .
العبادة البدنية المالية: وقد يجتمع الأمران ، البدني والمالي ، فتؤدى بالإثنين معاً ، ومثال ذلك : حج بيت الله الحرام فإنه مشتمل على العمل البدني كالإحرام ، والوقوف بعرفة ، والطواف ، والسعي ، وغير ذلك ، كما أن فيه جانباً مالياً كالنفقة في أثناء أداء شعيرة الحج ، وكالهدي الذي يذبح لمساكين الحرم وجوباً في حق الحاج المتمع والقارن ، أو استحباباً في حق الحاج المفرد .
ثانياً : العبادة القلبية والعملية
وتنقسم العبادة البدنية إلى قسمين : عبادة بالقلب ، وعبادة عملية بالجوارح .
القسم الأول: العبادة القلبية التي تؤدى بالقلب في أصلها ، كالإيمان بالله تعالى ، والخشية والخوف والإنابة له سبحانه وتعالى .
القسم الثاني : العبادة العملية التي تؤدى بالجوارح ، كاليد والرجل والعين واللسان ، وأمثلة هذه العبادات الصلوات والصيام وقراءة القرآن ، وذكر الله تعالى إلى غير ذلك .
ثالثاً: العبادة الفردية والجماعية
وتنقسم العبادة بإعتبار آخر ، إلى عبادة فردية وعبادة جماعية .
العبادة الفردية : هي التي يؤديها المسلم منفرداً عن غيره ، مستقلاً عن الجماعة ، كالإيمان بالله تعالى ، والإخلاص وغير ذلك من أعمال القلوب ، وكبعض أعمال الجوارح كالطواف بالبيت في الحج والعمرة ، وركعتي الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة في أداء النسك وكصلاة الراتبة ، وقيام الليل ، وصلاة النفل ،وغيره .
العبادة الجماعية : وهي التي يؤديها المسلم في جماعة مع غيره من المسلمين ، على سبيل الوجوب كصلاة الجمعة التي يشترط لصحتها وجود جماعة ، وكصلاة العيدين أيضاً يشترط لأصل إقامتها الجماعة أيضاً .
وقد تكون الصفة الجماعية على سبيل الندب والإستحباب ، كصلاة التراويح وصلاة الكسوف ،وصلاة الجنازة .
رابعاً : العبادة المؤقتة وغير المؤقتة
وتنقسم أيضاً ، إلى عبادة مؤقتة وعبادة غير مؤقتة .
العبادة المؤقتة : وهي العبادة التي حدد لها الشارع وقتاً محدداً ، وزمناً معلوماً ، ولابد أن تقع العبادة في زمنها المؤقت لها، لكي تكون أداء ، وإلا كانت قضاء ، ومن أمثلة ذلك ، الصلوات الخمس المكتوبة ، وصوم شهر رمضان ، وأداء شعيرة الحج ونحو ذلك .
العبادة غير المؤقتة : وهي العبادة التي لم يحدد الشارع لها وقتاً معيناً محدوداً ، بل جعل في وقتها اتساعاً ، بجيث يمكن أداؤها في أي وقت شاء ، وهذا على سبيل الأغلبية وإلا فإنه يستثنى من ذلك أشياء ، معروفة في مواضعها .
ومن أمثلتها : الصلاة النافلة ويستثنى منها أداؤها في أوقات الكراهة ، وصدقة التطوع ، وأداء العمرة ، وذكر الله تعالى ، وقراءة القرآن، ويستثنى من ذلك بعض الأوقات أو الأماكن التي تكره فيها .
________________________________________
4/ العموم والشمول
من خصائص العبادة في الإسلام العموم والشمول ، وهذا العموم والشمول في العبادة له ثلاث محاور ، ومن خلال معرفة هذه المحاور ، يظهر لنا بشمول العبادة وعمومها بوضوح وجلاء .
المحور الأول :شمول الأمر بالعبادة وعمومها في جميع الأديان السماويه ، ودعوة جميع الرسل ، حيث بعثوا جميعاً لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لاشريك له ، ونبذ عبادة ماسواه .
قال تعالى : (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) الأنبياء 25
وقال تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) النحل 36
المحور الثاني : إن الأصل في العبادة شمولها وعمومها لجميع الناس ، فرسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عامة للبشر جميعاً ، وللناس كافة ، ولم يبعث لقوم دون قوم .
قال تعالى : (وماخلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ) الذاريات 56
وقال تعالى : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لايعلمون ) سبأ 28
وقال -صلى الله عليه وسلم-"وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة" رواه البخاري ومسلم
ولذلك فإن الجميع مأمور بعبادة الله تعالى ، ولايستثنى من ذلك إلا من لم تتوافر فيه شروط التكليف ، كغير العاقل ، والصغير الذي لم يبلغ حد التكليف ، وإنما استثنى هؤلاء لعدم القدرة على العبادة وتخلف الأهلية عنها .
المحور الثالث : عموم العبادة في الإسلام في مفهومها الشامل للدين كله ولجميع مناحي الحياة ، ولكل الكيان الإنساني وجوارحه ، فالعبادة لاتقتصر على الشعائر التعبدية فقط ، بل تشمل جميع الأعمال الصالحة التي يحبها الله تعالى .
....... ...... ..... .....
5/ الإستمرار والدوام
من خصائص العبادة في الإستمرار والدوام ، المراد بالإستمرار والدوام هنا أمران :
الأول : استمرار العبادة ودوامها في حياة المسلم كلها في خلال اليوم والليلة أو الأسبوع ، أو الشهر أو السنة ، فهي مستمرة طيلة حياته ومدى عمره .
فمن العبادات ماهي يومية تؤدى في كل يوم كالصلوات الخمسة .ومنها ما هي أسبوعية تؤدى في كل أسبوع مرة كصلاة الجمعة ، ومنها ما هي سنوية تؤدى في كل سنة مرة كصوم شهر رمضان ، وكالزكاة لمن ملك مالاً تجب فيه الزكاة ، ومنها مايؤدى في العمر مرة واحدة فقط ، كالحج والعمرة .
وبذلك يبقى المسلم في عبادة مستمرة ، ولا ينقطع عنها بالكلية ، فإذا فرغ من عبادة أدركه موسم آخر للعبادة .
الثاني :استمرار العبادة ودوامها من حيث إن الأصل فيها استمرار التكليف بها ودوامه حتى انقضاء الحياة ، فالمسلم المكلف مأمور بطاعة الله تعالى وعبادته على سبيل الدوام واللزوم حتى اللحوق بالرفيق الأعلى ، إلا أن يعرض له مايرفع عنه التكليفكزوال العقل مثلاً ولاتسقط عنه لغير مسقط شرعي ، ولذلك لا تسقط بسسب سمو روحي ، أو لتصال خاص بالله فيما يزعم الزاعمون ، أو نحو ذلك من الأسباب المدعاة ، التي لو صحت لكان أولى الناس بها سيدالخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الأخيلر الأبرار -رضي الله تعالى عنهم- ،
ولم يدعّ أحدٌ أن التكليف بالعبادة مرفوع عن هؤلاء الصفوة ، بل الطاعة عليهم واجبة ، والعبادة لهم لازمة حتى لقوا الله تعالى .
واستمع لقوله تعالى في حق نبينا الكريم : (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) الحجر 99
وقد عبد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - ربه حتى لقيه تعالى ، وكان يصلي في مرض موته جالساً في بيته ، ولما وجد خفة ونشاطاً خرج إلى أصحابه وهم يصلون فصلى معهم .
ولذلك فإن من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم- فقد كفر بقوله تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام ) آل عمران 19
أ - معناها ب - شروطها ج - أركانها د – أنواعها هـ - خصائص العبادة
أ- معنى العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فكل حياة الإنسان عبادة لله سبحانه وتعالى، فالإنسان عبد لله في المسجد والسوق والمنزل والعمل، وفي كل مكان.
ب- شروط العبادة:
لا تقبل العبادة إلا بشرطين:
الأول: الإخلاص: فلابد أن تكون أعمال الإنسان وعبادته خالصة لله سبحانه، لا يشرك مع الله أحداً، ولا يرجو ثناءً ولا مدحاً من أحد.
قال عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } [البينة: 5].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله ورَسُوله فَهِجْرَتُه إِلَى الله ورَسُوله، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ) رواه البخاري.
الثاني: أن تكون عبادته على وفق ما شرعه الله ورسوله، فمن عبد الله بشيء لم يشرعه الله، فعبادته مردودة عليه غير مقبولة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منهِ فَهُوَ رَدٌّ ) متفق عليه.
ج- أركان العبادة وأصولها:
العبادة تقوم على أركان ثلاثة هي: المحبة، والرجاء، والخوف.
1. المحبة لله تعالى:
فهي أصل الإسلام، وهي التي تحدد صلة العبد بربه تبارك وتعالى، وهي نعمة لا يدركها إلا من ذاقها، وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمراً هائلاً عظيماً وفضلاَ غامراً جزيلاً، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها، ولا شبيه له، هو إنعام عظيم وفضل غامر جزيل أيضا. وقد تواردت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بهذه المعاني، فقال الله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } [مريم: 24].
وقال عز وجل: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة: 24].
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار ) رواه البخاري.
وحب الله تعالى ليس مجرد دعوى باللسان، ولا هياماً بالوجدان، بل لابد أن يصاحبه الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسير على هداه وتحقيق منهجه في الحياة، والإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش ولكنه طاعة لله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول، قال الله عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } [آل عمران: 31].
تنبيه:
ولكن بقي أن نشير هنا -تأكيداً لما سبق - إلى أن هذه المحبة هي غير المحبة الطبيعية للشيء، وغير محبة الرحمة والإشفاق ، كمحبة الوالد لولده الطفل، وليست محبة الإلف والأنس كمحبة الإخوة لبعضهم، أو لمن يجمعهم عمل واحد أو صناعة واحدة. وإنما هي المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله تعالى، ومتى أحب العبد بها غيره كانت شركاً لا يغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره سبحانه وتعالى على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعلقها أصلاً بغير الله.
2. الرجاء:
تعريفه: هو الاستبشار بجود الرب تبارك وتعالى، ومطالعة كرمه وفضله والثقة به.
الفرق بين الرجاء والتمني: أن الرجاء هو أن العبد يرجو ما عند الله عز وجل في الدار الآخرة، والرجاء لا يكون إلا مع العمل، فإذا كان بدون عمل فهو التمني المذموم، قال عز وجل: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً } [الكهف: 110].
فالرجاء هو التمني المقرون بالعمل وفعل السبب، أما التمني فهو الرغبة المجردة عن العمل وبذل الأسباب.
عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث يقول: (لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَل ) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قَالَ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ) رواه البخاري.
3. الخوف:
فكما أن العبد يرجو ثواب الله ومغفرته، كذلك فهو يخاف الله ويخشاه، قال عز وجل: {فلا تخافوهم وخافون } [آل عمران: 175].
فمن اتخذ مع الله نداً يخافه فهو مشرك.
قال الله عز وجل: {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } [البقرة: 80-81].
والقلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
د- أنواع العبادة:
أنواعها من حيث العموم والخصوص نوعان:
1. عبادة عامة:
وهي تشمل عبودية جميع الكائنات لله عز وجل، يدخل فيها المؤمن والكافر والإنسان والحيوان، بمعنى: أن كل من في الكون تحت تصرف الله وقهره، قال عز وجل: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } [مريم: 93].
2. عبادة خاصة:
وهي عبادة المؤمنين لربهم، وهي التي عناها الله عز وجل بقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [النساء: 36].
وهذه هي العبودية التي تحصل بها النجاة يوم القيامة.
هـ- أنواع العبادات من حيث تعلقها بالعباد:
1. عبادات اعتقادية:
وهذه أساسها أن تعتقد أن الله هو الرب الواحد الأحد الذي ينفرد بالخلق والأمر وبيده الضر والنفع ولا يشفع عنده إلا بإذنه، ولا معبود بحق غيره.
ومن ذلك أيضا: الاعتقاد والتصديق بما أخبر الله تعالى عنه، كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر في آيات كثيرة كقوله عز وجل: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } [البقرة: 177].
2. عبادات قلبية:
وهي الأعمال القلبية التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله تعالى وحده، فمنها:
المحبة التي لا تصلح إلا لله تعالى وحده، فالمسلم يحب الله تعالى، ويحب عباده الذين يحبونه سبحانه، ويحب دينه، قال الله عز وجل: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله } [البقرة: 165].
ومنها التوكل: وهو الاعتماد على الله تعالى والاستسلام له، وتفويض الأمر إليه مع الأخذ بالأسباب، قال الله عز وجل: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 23].
ومنها الخشية والخوف من إصابة مكروه أو ضر، فلا يخاف العبد أحداً غير الله تعالى أن يصيبه بمكروه إلا بمشيئة الله وتقديره، قال الله عز وجل: {فلا تخشوا الناس واخشون } [المائدة: 44].
3. عبادات لفظية أو قولية:
وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقدها ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّه ) رواه البخاري.
دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، سواء كان طلباً للشفاعة أو غيرها من المطالب، قال الله عز وجل: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } [يونس: 16].
4. عبادات بدنية:
كالصلاة والركوع والسجود، قال الله عز وجل: {فصل لربك وانحر } [الكوثر: 2].
ومنها الطواف بالبيت، حيث لا يجوز الطواف إلا به، قال عز وجل: {وليطوفوا بالبيت العتيق } [الحج: 29].
ومنها الجـهاد في سبيل الله تعالى، قال عز وجل: {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } [النساء: 74]. وكذلك وسائر أنواع العبادات البدنية كالصوم والحج.
5. عبادات مالية:
كإخراج جزء من المال لامتثال أمر الله تعالى به، وهي الزكاة. ومما يدخل في العبادة المالية أيضاً: النذر، قال الله عز وجل: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً } .
هـ - خصائص العبادة
1/ الربانية والتوقيف
من خصائص العبادة في الإسلام أنها ربانية المصدر، وإلهية المنبع ، مبناها على الإذن السماوي ، الصل فيها المنع والتوقيف ،حتى يصدر التشريع الرباني بشرعيتهاوجوباً أو استحباباً ، فهي توقيفية ، الأصل فيها الحظر ، إلا مادل الدليل الشرعي عليه.
وليس لأحد من المخلوقين الحق في تشريع أي عبادة مهما كانت هذه العبادة ، قولاً أو فعلاً ، وإنما ذلك حق لله تعالى وحده لا شريك له في هذا الحق أبداً .
وقد حذر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من الإبتداع في الدين والإحداث فيه ، كما جاء في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- حين قال : "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا ،فوعظنا موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقال قائل :يارسول الله ، كأن هذه موعظة مودّع فماذا تعهد إلينا ، فقال: " أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً،فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ،تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ،وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " . رواه أبو داود حديث رقم(4607)
فكل عبادة لم يشرعها الله تعالى فهي باطلة مردودة ، لا يحل لمسلم أن يتعبد الله بها ، ولا يتقرب إلى الله بفعلها ، بل إن فعلها منكرٌعظيم ٌوحرام يأثم فاعله ولا يؤجر، ويعاقب ولايثاب ، يقول الإمام ابن القيم :"كل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعداً فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء ".
وقد صرحت بذلك النصوص الشرعية ، فعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قالرسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس فيه فهو رد" رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي في بيان هذا الحديث : "قل أهل العربية : الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه فهو باطل غير معتد به ، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد البدع والمخترعات" شرح النووي على صحيح مسلم
وقال الإمام ابن حجر : " وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده ،فإن معناه : من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله ، فلا يُلتفت إليه". فتح الباري.
ومثل الإمام ابن عبد البر للابتداع في الدين فقال: " فمن توضأ على غير ماكان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يجزه ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد".
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تأخذ منه شريعتها ، وأحكام عبادتها ، فقال صلى الله عليه وسلم في شان الصلاة : " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري
وأمر أصحابه أن يتلقوا عنه أحكام المناسك ، ويتعلموا أحكام الحج من فعله صلى الله عليه وسلم فعن جابر بن عبدالله-رضي الله عنه- قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، يرمي على راحلته يوم النحر ، ويقول : " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه". رواه مسلم
2/التوازن والإعتدال
من خصائص العبادة في الإسلام التوازن والإعتدال ،فهي متوازنة بين المادة ةالروح ، معتدلة بين الدنيا والدين ، لا يطغى فيها جانب على جانب ، ولا يبغى فيها مجال على مجال .
لاتغلّب جانب الروح فتحرم الجسد حاجاته ، كما لا تهمل جانب الروح بالكلية وتطلق للجسد عنانه يفعل مايشاء بل توفق بين متطلبات الروح وبين حاجات الجسد ، وتجمع بين مطالب الدنيا وبين حقوق الآخرة .
فهي وسط بين الرهبانية المبتدعة ،التي تعارض طبيعة الإنسان التي جُبل عليها ، فتكبت الجسد وتحرمه حاجاته وغرائزه وتصادم فطرته التي خلق عليها ، وتقسو عليه أيما قسوة ،وتعذبه أيما تعذيب ، وذلك كحال الذين يتعبدون الله تعالى بتحريم الزواج وكبت الغرائز ، والبعد عن النظافة والتجمل ، وتعذيب الجسد بما لا يطيق ، من تعريضه للأذى ، ومنعه كثيراً من لذيذ الطعام والشراب ، إلى غير ذلك من العبادات المبتدعة ، والرهبنة المحدثة ، التي لم ينزل الله بها سلطاناً ، ولم يأذن بها أو يرتضيها ، بل ورد فيه عكس ذلك.
كما في قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الأنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ماكتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) الحديد27
كما أنها وسط بين المادية الجافة ، التي تلغي جانب الروح وتهمله ، ولا تعتني به ولا تلتفت إليه ، كحال اليهودية المحرفة ، التي تنظر إلى العبادة نظرة مادية بحتة ، وتتعامل مع الطاعة تعاملاً دنيوياً صرفاً ، لا تكاد ترى للآخرة فيها موقعاً ، ولا للجنة أوالنار مكاناً ، فالعمل الصالح إنما ثوابه عندهم الصحة والعافية ، أو الثراء وكثرة المال أو طول العمر والبقاء في الدنيا .
كما أن ترك الطاعات عقابها عندهم المرض والوباء ، أو الفقر والفاقة ، أو الموت العاجل وعدم الخلود في الدنيا .
وهكذا تجد نصوصهم المحرفة ، تحث على احترام الآباء والأمهات من أجل التعمير في الأرض ، وتأمر بعبادة الله تعالى ليبارك في خبزهم ومائهم ، ويبعد عنهم الأدواء ، ويطيل لهم الأعمار .
وهكذا تغلب النظرة الدنيوية على روح العبادة ، وتصبغ الطاعة بصبغة المادة .
أما الإسلام فسمته التوازن بين هذا وذاك ، فهو يريد المسلم أن يكون عابداً لله تعالى ، عاملاً في حياته لإصلاح دنياه ، وبذلك يعطي القلب حقه ، كما يعطي الجسد حقه ، وقد أمر سبحانه وتعالى بهذا التوازن ، وحث على هذا الإعتدال بقوله : ( وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ ِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) القصص 77
كما أثنى على من هذا حاله ووصفه في القرآن الكريم بقوله : (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماًتتقلب فيه القلوب والأبصار) النور 37.
وقد جاء القرآن الكريم بإرشاد المؤمنين إلى تحقيق التوازن والإعتدال ، بين العبادة والدنيا في نظام رباني في غاية الدقة ومنتهى الإحكام فقال : (ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)الجمعة آية 9.
فأرشد إلى السعي إلى الصلاة عند سماع النداء للجمعة، وترك الإنشغال بالدنيا ومتاعها ، ثم أذن بعد الإنصراف من هذه العبادة المباركة في البيع والشراء والإنشغال بالمعيشة ، وبذلك يعرف المسلم أن لكل شيء وقته المناسب ، وأنه لا ينبغي أن يطغى جانب على جانب .
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، إلى تحقيق التوازن بين العبادة وبين غيرها من الحقوق ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ياعبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل " ، فقلت : بلى يارسول الله ، قال : فلا تفعل ، صم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزوك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام ، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها،فإن ذلك صيام الدهر كله " ، فشددت فشد عليّ ، قلت : يارسول الله إني أجد قوة ، قال : " فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه " ، قلت وماكان صيام نبي الله داود عليه السلام ، قال : "نصف الدهر " . فكان عبد الله يقول بعد ماكبر : ياليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري ومسلم
كما علم النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- منهج التوازن والإعتدال لأولئك الرهط الذين جاءوا إلى بيوته صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه - حين قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا : وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر الله له ماتقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال : " أنتم الذين الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزرج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ". رواه البخاري ومسلم
________________________________________
3/ التنوع والتعدد
من خصائص العبادة في الإسلام التنوع والإختلاف ، فليست العبادة في الإسلام على صورة واحدة ، أو هيئه مفردة ، بل هي متنوعة متعددة ، لها صور شتى وأشكال مختلفة ، وأنواع كثيرة :
فمنها ماهو بدني ومنها ماهو مالي ، ومنها ماهو فردي كما أن منها ماهو جماعي ،ومنها ماهو قلبي فقط ،ومنها ماهو مع ذلك عملي بالجوارح ، ومنها ماهو مؤقت بوقت محدد ومنا مالم يحدد له وقت معين، ومنها ماهو عبادة محضة ومنها ما هو فالأصل من قبيل العادة ثم غدا عبادة بالنية الصالحة إلى غير ذلك من أنواع ، نعرض لببعضها فيما يأتي :
صور من تنوع العبادة
أولاً: العبادة البدنية والمالية
والعبادة بهذا الإعتبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
العبادة البدنية : أي مايؤدى بالبدن ، كالقلب والجوارح، مثل : الإيمان بالله تعالى ،ومثل الصلوات بإختلاف أنواعها ، والصوم ، والجهاد ، والذكر ، والإستغفار .
العبادة المالية : وهي التي تؤدى بدفع شيءٍ من المال ، مثل الزكاة الواجبة ، وصدقة التطوع ، وبعض الكفارات .
العبادة البدنية المالية: وقد يجتمع الأمران ، البدني والمالي ، فتؤدى بالإثنين معاً ، ومثال ذلك : حج بيت الله الحرام فإنه مشتمل على العمل البدني كالإحرام ، والوقوف بعرفة ، والطواف ، والسعي ، وغير ذلك ، كما أن فيه جانباً مالياً كالنفقة في أثناء أداء شعيرة الحج ، وكالهدي الذي يذبح لمساكين الحرم وجوباً في حق الحاج المتمع والقارن ، أو استحباباً في حق الحاج المفرد .
ثانياً : العبادة القلبية والعملية
وتنقسم العبادة البدنية إلى قسمين : عبادة بالقلب ، وعبادة عملية بالجوارح .
القسم الأول: العبادة القلبية التي تؤدى بالقلب في أصلها ، كالإيمان بالله تعالى ، والخشية والخوف والإنابة له سبحانه وتعالى .
القسم الثاني : العبادة العملية التي تؤدى بالجوارح ، كاليد والرجل والعين واللسان ، وأمثلة هذه العبادات الصلوات والصيام وقراءة القرآن ، وذكر الله تعالى إلى غير ذلك .
ثالثاً: العبادة الفردية والجماعية
وتنقسم العبادة بإعتبار آخر ، إلى عبادة فردية وعبادة جماعية .
العبادة الفردية : هي التي يؤديها المسلم منفرداً عن غيره ، مستقلاً عن الجماعة ، كالإيمان بالله تعالى ، والإخلاص وغير ذلك من أعمال القلوب ، وكبعض أعمال الجوارح كالطواف بالبيت في الحج والعمرة ، وركعتي الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة في أداء النسك وكصلاة الراتبة ، وقيام الليل ، وصلاة النفل ،وغيره .
العبادة الجماعية : وهي التي يؤديها المسلم في جماعة مع غيره من المسلمين ، على سبيل الوجوب كصلاة الجمعة التي يشترط لصحتها وجود جماعة ، وكصلاة العيدين أيضاً يشترط لأصل إقامتها الجماعة أيضاً .
وقد تكون الصفة الجماعية على سبيل الندب والإستحباب ، كصلاة التراويح وصلاة الكسوف ،وصلاة الجنازة .
رابعاً : العبادة المؤقتة وغير المؤقتة
وتنقسم أيضاً ، إلى عبادة مؤقتة وعبادة غير مؤقتة .
العبادة المؤقتة : وهي العبادة التي حدد لها الشارع وقتاً محدداً ، وزمناً معلوماً ، ولابد أن تقع العبادة في زمنها المؤقت لها، لكي تكون أداء ، وإلا كانت قضاء ، ومن أمثلة ذلك ، الصلوات الخمس المكتوبة ، وصوم شهر رمضان ، وأداء شعيرة الحج ونحو ذلك .
العبادة غير المؤقتة : وهي العبادة التي لم يحدد الشارع لها وقتاً معيناً محدوداً ، بل جعل في وقتها اتساعاً ، بجيث يمكن أداؤها في أي وقت شاء ، وهذا على سبيل الأغلبية وإلا فإنه يستثنى من ذلك أشياء ، معروفة في مواضعها .
ومن أمثلتها : الصلاة النافلة ويستثنى منها أداؤها في أوقات الكراهة ، وصدقة التطوع ، وأداء العمرة ، وذكر الله تعالى ، وقراءة القرآن، ويستثنى من ذلك بعض الأوقات أو الأماكن التي تكره فيها .
________________________________________
4/ العموم والشمول
من خصائص العبادة في الإسلام العموم والشمول ، وهذا العموم والشمول في العبادة له ثلاث محاور ، ومن خلال معرفة هذه المحاور ، يظهر لنا بشمول العبادة وعمومها بوضوح وجلاء .
المحور الأول :شمول الأمر بالعبادة وعمومها في جميع الأديان السماويه ، ودعوة جميع الرسل ، حيث بعثوا جميعاً لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لاشريك له ، ونبذ عبادة ماسواه .
قال تعالى : (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) الأنبياء 25
وقال تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) النحل 36
المحور الثاني : إن الأصل في العبادة شمولها وعمومها لجميع الناس ، فرسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عامة للبشر جميعاً ، وللناس كافة ، ولم يبعث لقوم دون قوم .
قال تعالى : (وماخلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ) الذاريات 56
وقال تعالى : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لايعلمون ) سبأ 28
وقال -صلى الله عليه وسلم-"وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة" رواه البخاري ومسلم
ولذلك فإن الجميع مأمور بعبادة الله تعالى ، ولايستثنى من ذلك إلا من لم تتوافر فيه شروط التكليف ، كغير العاقل ، والصغير الذي لم يبلغ حد التكليف ، وإنما استثنى هؤلاء لعدم القدرة على العبادة وتخلف الأهلية عنها .
المحور الثالث : عموم العبادة في الإسلام في مفهومها الشامل للدين كله ولجميع مناحي الحياة ، ولكل الكيان الإنساني وجوارحه ، فالعبادة لاتقتصر على الشعائر التعبدية فقط ، بل تشمل جميع الأعمال الصالحة التي يحبها الله تعالى .
....... ...... ..... .....
5/ الإستمرار والدوام
من خصائص العبادة في الإستمرار والدوام ، المراد بالإستمرار والدوام هنا أمران :
الأول : استمرار العبادة ودوامها في حياة المسلم كلها في خلال اليوم والليلة أو الأسبوع ، أو الشهر أو السنة ، فهي مستمرة طيلة حياته ومدى عمره .
فمن العبادات ماهي يومية تؤدى في كل يوم كالصلوات الخمسة .ومنها ما هي أسبوعية تؤدى في كل أسبوع مرة كصلاة الجمعة ، ومنها ما هي سنوية تؤدى في كل سنة مرة كصوم شهر رمضان ، وكالزكاة لمن ملك مالاً تجب فيه الزكاة ، ومنها مايؤدى في العمر مرة واحدة فقط ، كالحج والعمرة .
وبذلك يبقى المسلم في عبادة مستمرة ، ولا ينقطع عنها بالكلية ، فإذا فرغ من عبادة أدركه موسم آخر للعبادة .
الثاني :استمرار العبادة ودوامها من حيث إن الأصل فيها استمرار التكليف بها ودوامه حتى انقضاء الحياة ، فالمسلم المكلف مأمور بطاعة الله تعالى وعبادته على سبيل الدوام واللزوم حتى اللحوق بالرفيق الأعلى ، إلا أن يعرض له مايرفع عنه التكليفكزوال العقل مثلاً ولاتسقط عنه لغير مسقط شرعي ، ولذلك لا تسقط بسسب سمو روحي ، أو لتصال خاص بالله فيما يزعم الزاعمون ، أو نحو ذلك من الأسباب المدعاة ، التي لو صحت لكان أولى الناس بها سيدالخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الأخيلر الأبرار -رضي الله تعالى عنهم- ،
ولم يدعّ أحدٌ أن التكليف بالعبادة مرفوع عن هؤلاء الصفوة ، بل الطاعة عليهم واجبة ، والعبادة لهم لازمة حتى لقوا الله تعالى .
واستمع لقوله تعالى في حق نبينا الكريم : (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) الحجر 99
وقد عبد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - ربه حتى لقيه تعالى ، وكان يصلي في مرض موته جالساً في بيته ، ولما وجد خفة ونشاطاً خرج إلى أصحابه وهم يصلون فصلى معهم .
ولذلك فإن من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم- فقد كفر بقوله تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام ) آل عمران 19